قصة غريبة قبل زكاة الفطر!
عندما أردت إخراج زكاة الفطر في أحد الأعوام اشتريت كيساً من الأرز من شركة مشهورة وضع عليه أنه يزن (45 كيلوجراماً) فوزنته من باب التثبت والاحتياط للعبادة، فإذا بي أفاجأ بأنه لا يزيد عن (39 كيلوجراماً) فاشتريت مجموعة من الأكياس من أكثر من شركة، لعل هذه الحالة تكون شاذة فوجدتها تتفاوت أيضاً، فبعضها (41، 43، 45 كيلوجراماً) مع أن الجميع قد كتب عليها أنها تزن 45 كيلوجراماً، وقد اتصلت بأحد الثقات من تجار الجملة لأستفسر عن السبب، فقال لي: المشكلة تكمن بأمور، منها :
ا-بعض أنواع الأرز تعبأ بالأكياس وهي رطبة وتوزن فتكون 45 كيلوجراماً، وعندما تنشف تنقص كيلوات، وهذا هو السبب في الغالب.
قلت: النقص الذي يحصل بعدما تذهب الرطوبة وييبس الأرز، اعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم مؤثراً في الربا، ودليل ذلك أنه عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن بيع تمر برطب فقال: (تنقص الرطبة إذا يبست؟) قالوا: نعم، قال: (فلا إذن) أخرجه مالك وغيره بسند صحيح.
وهذا النقص يسير، ومع ذلك اعتبره المصطفى صلى الله عليه وسلم مؤثراً في الوزن مسبباً لربا الفضل، والنقص يحدث في البر والأرز عندما ييبسا، وأنت مطالب بوزنه عند إخراجه لا عند تعبئته ببلده.
ب- كيس الأرز يوزن بعد التعبئة، وهو يشمل الكيس المعبأ به، والأسيام التي يربط بها الخيش، وإذا فرغ الأرز أوالبر ووزنا فلا شك أن هذه تنقص من أصل الوزن، والخيش مع الأسيام قد يزن بين ثلاثة إلى أربعة كيلوجرامات، وهذا النقص يعادل زكاة مسلم وأكثر، وذلك أنني اعتمدت مقدار الصاع النبوي (ثلاثة كيلوجرامات) كما ظهر لي.
ولذلك اتفق العلماء حسماً لمادة الخلاف على اعتماد الصاع النبوي وجعله هو الأصل في ذلك، وعدم الالتفات إلى غيره من الأصواع، ولذلك يجب أن تقدر الأصواع والأوزان بقدر الصاع النبوي.
وقدّر بعض أهل العلم في بلادنا، أن الصاع النبوي يعدل كيلوين وأربعين جراماً من البر الجيد، فمن أراد أن يعرف مقدار الصاع النبوي فعليه أن يحضر ألفين وأربعين جراماً من البر الجيد، ثم يضعها في إناء وعلى قدر ما تصل في الإناء فهو مقدار الصاع النبوي.
ولكن المشكلة تكمن في اختلاف تقدير الناس للجيد والرديء من البر، كما إن غالب الناس مع الأسف الشديد اعتمدوا هذا المقدار من الوزن وغيره من الأوزان التي اجتهد فيها بعض أهل العلم المعاصرين، حيث قدروا عندما استخدموا الصاع في الأرز ثم وزنوه، فقدروا أن الصاع النبوي يعدل كيلوين وسبعمائة جرام من الأرز، فجعلها كثير من الناس مقداراً للصاع النبوي، بل اعتبروها قاعدةً ثابتةً على جميع الأطعمة والأصناف، فأصبح بعضهم –مثلاً- يخرج كيلوين وأربعين جراماً من التمر على أنه هو الصاع النبوي، قياساً على البر الجيد، ويخرج مقدار ذلك من الأرز، لا يفرق بين جيده ورديئه.
فقررت خوض التجربة فوجدت مفارقات مخلة بالزكاة، فبعض أنواع الأرز بلغ مقدار الصاع النبوي عند الوزن (3 كيلوجرامات) وبعض أنواع الأرز بلغ الصاع (2700 جرام) فوجدت أن من الصعوبة بمكان اعتماد الأوزان واعتبارها قاعدة ثابتة، فوزن الصاع مختلف من صنفٍ لآخر، فمثلاً التمر المكنوز لا يملأ الصاع منه أكثر من ثلاثة كيلوجرامات، بعكس التمر اليابس (أي الناشف) فقد يزن الصاع منه كيلوين ونصفاً، كذلك أنواع التمر الأخرى، فالسكري –مثلاً- له وزنه المختلف بين مكنوزه وبين ناشفه, وتمر الإخلاص كذلك تختلف أوزانه باختلاف أنواعه وأحجامه، والأقط والزبيب لهما أوزانهما المختلفة كذلك ما بين جيدها ورديئها وصغيرها وكبيرها، فاعتماد وزن واحد وجعله قاعدة ثابتة من الأمور المستحيلة.
وقد يقول قائل: إنني شققت على نفسي، وبحثت في أشياء ما كان لي أن أبحث فيها، فأقول: هذا ليس بصحيح، بل هذه عبادة يجب علينا أن نحتاط عند أدائها ونتثبت، لأنها كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي داود وغيره بسند صحيح (أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث)، فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما (صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصغير من المسلمين).
وللحديث روايات أخرى تنوعت فيها الأصناف.
وذهب عامة أهل العلم إلى عدم قصرها على الأصناف الواردة في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي فيها ذكر لأصناف معينة، بل يجزئ أن تخرج من قوت البلد إذا كان مكيلاً أو موزوناً ومدخراً، وعامة قوت أهل هذه البلاد وغيرها هو الأرز، ولذا نص علماء بلادنا على جواز إخراجها من الأرز، تحقيقاً لحاجة الفقراء والمساكين، ولذا على المسلم أن يبادر بإخراجها كيلاً بالصاع، كما نص على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم حدد لنا كيلاً معيناً علينا التقيد به, فلو أن إنساناً ذهب لبائع خبز واشترى منه خبزاً لنفسه لوجدته يقوم بعده حرصاً منه على عدم ضياع حقه، فكيف بعبادة قد فرضها الله علينا وجعلها حقاً واجباً علينا للفقراء والمساكين؟ فهي بالتأكيد أولى بالتثبت والتبين، والتأكد من صحة وزنها من ذلك الخبز الذي قد يتأكد البعض من عده عند شرائه، فحق الله أولى بالتأكد والتثبت من صحة وزنه حتى تتأكد أنك أديتها كما أمر.
وقد يقول قائل: وهل يلزمنا أن نقوم بوزن كل كيس للتأكد من صحة وزنه من عدمه؟
فأقول: نعم إن أردت إبراء ذمتك، وهذا ليس من التكلف أو التنطع بل من باب أداء العبادة على الوجه الأكمل، خاصة أن بعض الشركات لا تبرئ الذمة، باعتماد ما تذكره من أوزان، كذلك ما الضرر من قيامنا بوزن ذلك طالما أن التأكد واجب علينا شرعاً؟ ولو كان فرضاً علينا في كل يوم 100 مرة أو أكثر فكيف وهو لا يجب علينا في السنة إلا مرة واحدة فقط؟ وكيف تطيب نفسك أن تخرج الزكاة وأنت غير متأكد من صحت الوزن؟ فقد تخرج كيساً عن (15 فرداً) من عائلتك وهو لا يجزئ إلا عن (13 فرداً) لأن هذا الكيس قد يفقد من وزنه الحقيقي ستة كيلوات أو أكثر من الوزن الذي كُتب على غلاف الكيس، كما حدث لي في العام الماضي.
ومما يوجب التأكد من صحة أكياس الأرز أن بعض القائمين على تعبئة هذه الأكياس قد لا تبرأ الذمة بأقوالهم وأفعالهم.
إن الاعتماد على ما تكتبه الشركات على أغلفة إنتاجها مقدراً الوزن ليس سائغاً شرعاً، خاصة أن إمكانية الوزن متيسرة في كل محل.
وقد يتعذر بعضهم بأن الوقت قد يكون ضيقاً والزحام شديد، فأقول: هذا ليس بعذر، ولله الحمد. وما المانع أن يهيئ المسلم زكاة فطره قبل رمضان بأشهر، أو مع بداية رمضان قبل الزحام وانشغال الناس، ثم يخرجها في وقتها الشرعي في ليلة العيد؟ كذلك ما المانع من أن يخرجها من القوت الذي يوجد في بيته؟ فليس شرطاً أن يشتري لزكاة الفطر أكياساً جديدة، ومن لا يريد أن يجهد نفسه فعليه على الأقل أن يحتاط لنفسه فيخرج مزيداً من الكيلوات، فيخرج الكيس الكبير الذي كتب عليه يزن 45 كيلوجراماً عن 12 أو 13 شخصاً.
ما ذكرته لا ألزم به أحداً، وإنما نصح للأمة، من ارتاح له فليعمل به إن رغب في ذلك، ومن لا يرتاح له فليعتبره قولاً من الأقوال غير المعتبرة عنده.
وأتمنى من هيئة المواصفات والمقاييس اعتماد صاع يكون موافقاً ومماثلاً لمقدار الصاع النبوي، وإشاعته بين الناس بعد اعتماده من اللجنة الدائمة للإفتاء.
كذلك أقترح عليها إخراج كتيب يحتوي ما يعادل الصاع النبوي من الأوزان بالكيلوات من أصناف الزكاة المختلفة، كالأزر والبر والتمر... إلخ.
فمثلاً: يذكر في هذا الكتاب أن التمر السكري الجيد متوسط الحجم قدر الصاع من الكيلوات كذا وكذا، وأما صغير الحجم فقدره كذا وكذا، وكبير الحجم من تمر الإخلاص مكنوزاً كذا وكذا، ويبساً (ناشفاً) كذا وكذا، أما أرز الشعلان فحبته الصغيرة قدر الصاع النبوي منه كذا وكذا من الكيلوات، وحبته الكبيرة كذا وكذا, وأما أرز الرشيد وبابكر والعثيم وغيرها من الشركات فالصاع النبوي يعدل من أوزانها كذا وكذا للصغير، وكذا وكذا للمتوسط وللكبير، وليس ذلك بصعب عليها ولا معجز، بل إن هناك من طلبة العلم من هم على استعداد للتعاون معها في ذلك، وتسعى هي جاهدة مشكورة لنشر الصاع النبوي وإشاعته بين الناس بعد اعتماده من جهة الإفتاء حتى تبرئ ذمتها أمام الله لأن هذه القضية من مسؤولياتها.
كما إنني أقدم اقتراحات للشركات المستوردة للأرز والبر، وكذلك الشركات المنتجة للتمر وغير ذلك من أصناف الزكاة، وهو كما يلي :
أ- أن تقدم الصاع النبوي مُصنعاً من البلاستك أو غيره، هدية منها لزبائنها، حيث اعتادت هذه الشركات أن تقدم هدية مع أكياس الأرز، فما المانع أن تكون هداياها في هذا العام والأعوام المقبلة بإذن الله (الصاع النبوي) فتجعل مع كل كيس هذا الصاع حتى يقوم المزكي بوزنه بنفسه, كما إن في ذلك فائدة عظيمة، وهي أن يقوم الأب وحوله زوجه وأولاده لتوزيع الزكاة، ثم يبدأ بكيل الأوزان فيقول: هذا لفلان وهذا لفلان، حتى يتربى الأبناء ويتعودوا على أدائها في كل عام، خاصةً أن مظاهر إظهار هذه الشريعة وإبراز هذه السنة النبوية العظيمة قد اختفت من غالب البيوت، وأخشى أن تفقد فريضة زكاة الفطر عند بعض الأسر بسبب عدم تربيتهم على أدائها، لأن غالب الآباء يشتري هذه الزكاة أو يوكل من يقوم بالشراء عنه، ولا يعلم من هم تحت رعايته شيئاً عنها، فإن إظهار هذه الشركات هذا الصاع وإبرازه سيكون عاملاً مساعداً على إحياء هذه السنة بإذن الله.
ولو كنت أرغب في تجارة لاحتفظت بهذه الفكرة لنفسي وتبنيتها، أو قدمتها اقتراحاً لبعض الشركات المنتجة والمستوردة لهذه الأصناف، ولكنني أرجو أجرها بإعلاني لها .
ب- كما إنني أقدم للتجار فكرة، وهي إنتاج الصاع من وعاء بلاستيكي أو من الألمنيوم، وأسعاره فيما أظن رخيصة، وتعبأ أكياس الأرز وتغلف بهذا الصاع، فيشتري المسلم هذه الكمية بصاعها ويقوم بالتصدق به، ولا أظن ذلك صعباً ولا مكلفاً ولا مستحيلاً، بل ظريفاً ومفيداً ومريحاً، بإذن الله، خاصةً أن هذه الكميات تحتاج إلى أغلفة عند بيعها، فيكون غلافها صاعها، فبدل من أن توضع هذه الكميات بأكياس من الخيش توضع بأوعية من البلاستيك على شكل الصاع قدراً وحجماً.
وفي الختام، أنا على يقين أن هناك من قد لا يعجبه كلامي بل قد يتهمني بالتشديد على نفسي وعلى غيري، أو يخالفني في وجهات النظر، وأقدر له تلك المخالفة، ولكنني أحسب نفسي قد اجتهدت فيما أظن أن فيه إبراء لذمتي، خاصة أن هذه المشكلة قد وقفت عليها بنفسي، فوجب علي إيضاحها تبرئة لذمتي من إثم إخفائها، فها أنا أعرضها، فمن أراد أن يأخذ بها فليأخذ، ومن أراد أن يعرض عنها فليعرض.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
الدكتور صالح بن مقبل العصيمي التميمي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام والمشرف على موقع "الإسلام النقي"