اخوتي
ما أحوجني وإياكم اليوم في ظل هذه العشر وقبل الوداع أن نحسن الإقبال على
الله تعالى ، وأن نستدرك أيام التفريط ، وأن نعوّض ما فات ، أتراني أطلب
منكم مستحيلاً حين أقول من الواجب على الفطن العاقل اليوم في ظل هذه العشر
أن يحسن ملازمة الطاعة ، وأن يتكرّم على نفسه بالورود إلى حياض المكارم
ولو لهذه اللحظات الغالية ، وكيف أطلب من نفسي وإياك مستحيلاً وهذه العشر
لا تأتي في العام إلا وهله . إنني أريد من نفسي ومنك أن نتشبه بحال
السابقين ، وأولى هؤلاء السابقين نبيك صلى الله عليه وسلم حين تخبر زوجه
عائشة رضي الله تعالى عنها فتقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل
العشر شد مئزره وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ( متفق عله ) زاد مسلم : وجد وشد
المئزر . وكانت تقول رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره ( رواه مسلم ) وكان علي رضي
الله عنه يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر
من رمضان . ( رواه الترمذي وصححه الألباني ) فهاهو رسولك أيها الحبيب
يعلم ما في هذه العشر فيتعبّد فيها ما لا يتعبّد في غيرها . إن أول صورة
تتراءى في الذهن لاجتهاد هذا النبي الكريم هي صورة إقباله صلى الله عليه
وسلم على الصلاة ، واهتمامه وتعلقه بها تلك صورة من حافظ عليها واهتم بها
لقي في قلبه عوالم الأرواح الحقيقية ، ولما لا تكون كذلك وفي حديث ابن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله ليعجب من
الصلاة في الجميع . ( رواه الإمام أحمد وصححه أحمد شاكر والألباني )
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : لا يتوضأ أحدكم
فيحسن الوضوء ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش
الله إليه كما يبشبش أهل الغائب بطلعته . ( رواه ابن خزيمه وصححه الألباني
) بوب ابن خزيمة على هذا الحديث فقال : باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده
متوضأ . وفي حديث ميثم رجل من أصحاب النبي صلى الله علي وسلم قال : بلغني
أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد ، فلا يزال بها معه حتى
يرجع فيدخل إلى منزله . رواه ابن أبي عاصم ، وأبو نعيم والمنذري وصححه
الألباني . فأي مواقف تقفها أيها الحبيب في هذه العشر . وإذا كان الله
تعالى يعجب منك ، ويتبشبش إليك ، والملك يصحبك برايته فماذا تنتظر غير
النعيم العظيم جعلك الله تعالى من أهله . إن الفرصة تبدو كبيرة في ملازمة
محراب المسجد اليوم بالذات في مثل هذه العشر ، حرصك على صلاة الجماعة مع
الإمام ، وكثرة النافلة المقيدة والمطلقة ، سر من أسرار الموفقين في هذه
الأيام ، أما الليل فحدث عنه حديث المحبين ، وصدق من قال : دقائق الليل
غالية فلا ترخصوها بالغفلة ! يكفي أن الله تعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه
ينزل في ثلثه الأخير إلى السماء الدنيا فيقول : هل من داع فأستجيب له ؟ هل
من مستغفر فأغفر له ؟ متفق عليه
.
اخوتي الاعزاء
بين يديكم في ليالي هذه العشر ليلة عظيمة القدر والشأن ، قال الله تعالى
فيها : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة
القدر خير من ألف شهر * تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر *
سلام هي حتى مطلع الفجر ) وقال صلى الله عليه وسلم : من قام ليلة القدر
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه ( متفق عليه ) وأهل العلم على
أن الإنسان إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كل ليلة تحقق له شهود ليلة القدر
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام
ليلة . لقد تحدث نبيك صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر حديث المعظّم لها
فقال صلى الله عليه وسلم : التمسوها في العشر الأواخر في الوتر . متفق
عليه . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، ليلة القدر في تاسعة تبقي ، في
سابعة تبقى ، في خامسة تبقى . رواه البخاري .
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم
ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : خرجت لأخبركم
بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فَرُفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ،
فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة . رواه البخاري . وقال صلى الله
عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها ،
فليتحرها في السبع الأواخر . متفق عليه . وقد قرر أهل العلم رحمهم الله
تعالى أنها في الأوتار آكد كما هو ظاهر حديث النبي صلى الله علي وسلم .
الصدقة سر من أسرار رمضان بالذات ، وقد كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس ،
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله
صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ، وأهل العلم رحمهم الله
تعالى على أن الطاعات تعظم في الأزمان الفاضلة ، والصدقة في هذه العشر من
ميراث الصالحين ، لقد كان صلى الله عليه وسلم جواداً كريماً في كل حياته ،
وكان في رمضان صورة أكثر جوداً وعطاءً ، وهكذا كان السلف الصالح رحمهم
الله تعالى في أزمان الطاعة . إن
بإمكانك أخي الصائم أن تجعل لعشرك بعض نفحات البر والإحسان إلى الأرامل
والمساكين ، والفقراء والأيتام ، وأنت تعلم أن للصدقة تأثيراً كبيراً في
دفع البلاء عن المؤمن ، وتعلم أن المتصدق في ظل صدقته يوم القيامه ، وتعلم
أن ممن يظله الله تعالى بظله يوم القيامة متصدق تصدّق بصدقته فأخفاها حتى
لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه . والصدقة وإن كانت يسيرة إلا أنها بين يدي
الله تعالى عظيمة ، فلا تبخل بشيء من العطاء وقد بلغك أن الملك يدعو صباح
كل يوم بقوله : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ولا تنسى رعاك الله تعالى في
هذا المقام أن تفطير الصائمين فرصة خاصة في ظلال هذه العشر وقد قال نبيك
صلى الله عليه وسلم : من فطّر صائماً كان له مثل أجره ، ومثل ذلك في الأجر
وأعظم فكاك الأسير بدينه ، وإغاثة المنكوبين ، وإطعام الأيتام ، ومن كان
في حاجة أخيه كان الله في حاجته .
واعلم أن الابتسامة صدقة من الصدقات ، ومثلها الرحمة بالآخرين ، والعفو
عنهم ، والصفح عن أصحاب الزلات ، وقد غفر الله تعالى لامرأة زانية بغي بسبب
سقيها لكلب وقد أرهقه العطش ، فقال الغزالي رحمه الله تعالى : لئن كانت
الرحمة بالبهائم تغفر ذنوب البغايا فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب . واعلم
أن أولى الصدقات بك في هذا المقام نبذ الفرقة ، وترك الخصام ، فإن الواقع
فيها في مثل هذا العشر قد يكون محروماً من آثار هذه الفضائل . إن مثلك لا
يخفى عليه أن ليلة القدر رُفع علمها عن الأمة بسبب الشجار والخصام ، وأي
حرمان أيها الحبيب لرجل في عشره الأخيرة من رمضان وهو لا زال يكابر في هذه
الفضائل ، ويقع فريسة لعدو الله تعالى ، ويصر على هجر إخوانه حتى في
مواسم الطاعات ؟ ولئن كانت أعمال العباد تُعرض على الله تعالى كل اثنين
وخميس فإن أعمال المتخاصمين يحرمها النزاع ثمرتها ، ويكتب عليها الشقاق
آثار الجرمان .
اخواتي الاعزاء
ذكر الله تعالى الغنيمة الباردة ، والزاد اليسير ، أعظم سلاح يتزوّد به
المتقربين في هذه العشر ، يكفي في ذلك حديث نبيك صلى الله عليه وسلم : ألا
أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ؟ وأرفعها في درجاتكم ؟ وخير لكم
من إنفاق الذهب والورق ؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم
ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : بلى قال : ذكر الله . رواه الترمذي وصححه
الألباني . ذكر الله تعالى أيها المسلم في هذه الأيام زاد المتقين ، وقربة
المؤمنين ، وهو الباب الذي يزدلف الإنسان منه إلى ربه تبارك وتعالى .
واعلم أن حفظك للأذكار المقيّدة كالأذكار بعد الصلوات ، وأذكار الصباح
والمساء ، وأذكار النوم والاستيقاظ ، والأكل والشرب ، ودخول المسجد ،
والخلاء ونحو ذلك ، ودوامك على الأذكار المطلقة في كل حين طريق لنيل رضى
ربك ، وتحقيق لسبق غيرك ، وطريق للفوز والكرامة بين يدي ربك يوم القيامة
اخواتي --
الدعاء ، الدعاء أيها المسلم فإنك في أيام البر والخير والإحسان ، لقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم للصائم دعوة عند فطره لا ترد ، وأخبر صلى الله
عليه وسلم أن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل فيقول : هل من داعٍ
فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له . وحسن سألته عائشة رضي الله عنها
فقالت له : أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي :
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني . رواه الترمذي وابن ماجه وصححه
الألباني . فبين يديك مواطن الرحمة ، وقد تهيأت لك في هذه العشر أسباب
المغفرة ، وقد لاح لك جواب سؤالك اليوم فاعتنم فإن الفرص قد لاتتكرر .
أحوج ما نحن بحاجة إليه في هذه المسألة هي أنه حين يرانا الله تعالى ونحن
ندعوه أن يرانا وقد لبسنا ثوب الخشية ، والذلة ، والضعف ، والمسكنة ،
والانكسار بين يديه فإن ذلك من أعظم أسباب إجابة الدعاء . ومتى ما رآك
الله تعالى ذليلاً منكسراً من عليك ، ورأف بحالك ، وأعظم لك المثوبة .
فأقبل في تلك الساعات فإنها من الفرص التي لا تعوّض .
اخواتي --
الاعتكاف طريقك إلى سمو الروح ، وعالمَ ٌإلى تحقيق مقاصد القلب من الخشية
والإقبال على الله تعالى ، فهو طريق للم شعث القلب ، ولم فرقته ، ولما كان
الطعام والشراب ، والخلطة تؤثّر على صفاء الروح ، وتسلب القلب من مقامات
الأولياء شرع الله تعالى الصوم والاعتكاف ، فإن الصوم يذهب بكير التخفة
وأثرها على القلب ، والاعتكاف يذهب بكير الخلطة ، فيحدث صفاء الروح ، فيسمو
الإنسان بين يدي الله تعالى . وهو سنّة ماضية من عهد النبي صلى الله عليه
وسلم فقد اعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأول ، ثم اعتكف العشر الأوسط ،
ثم اعتكف العشر الأخيرة واستقر اعتكافه في هذه العشر .وعلى هذا كانت حياة
السلف الصالح رحمهم الله تعالى .
قد لا أنجح في تصوير فضل القرآن لك ، خاصة في مثل هذه العشر ، لك يمكن أن
أقول لك إنك تقرأ كلام الله تعالى ، وتلهج بحديثه وذكره ، وتكرر كلامه ،
فيا لله أي كلام تردده ؟ وأي حديث تلفظ به شفاك ؟ وأي وقت تستقطعه في
تكرار هذا الحديث ؟ كان جبريل عليه السلام يعارض رسولنا صلى الله عليه
وسلم بالقرآن كل عام مرة ، وعارضه في العام الذي توفي فيه مرتين ، ولا
تنسى أن الحرف الواحد بعشر حسنات إلى أضعاف كثيرة ، ويكفي أن الله تعالى
قال : ( وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) فقط آمل أن تقرأه
وأنت تتصوّر من تحدّث به ، تقرأه قراءة المتشافي به من المرض ، الباحث به
عن الصحة ، المؤمّل فيه الراحة والسعادة والترقي في منازل الإيمان .
مهما كنت حريصاً في هذا المقام على رفع مقامك بين يدي الله تعالى إلا أنك
أوعب للقضية ، وتعلم مقدار ما بين يديك من فرصة ، وتدرك تماماً أنه قد تهيأ
لك من أسباب الخير مالم يتهيأ لغيرك ، لئن كنت تشهد هذه العشر وأنت تلبس
ثوب العافية فغيرك يشهدها لكنه أسير على الأسرّة البيض لا يملك من الفرحة
التي تعيشها سوى دمعة تذرف على خديه . ولئن كنت تشهدها حقيقة فغيرك تجرّع
غصص ورحل وكم كان يتمنّى أن يشهد شهودك أخي الحبيب . أخي الحبيب : أدعوك
دعاء المحب لحبيبه ، دعاء الناصح لأخيه ، أدعوك أن تعتبر هذه العشر الفرصة
التي قد لا تعود ، والحياة التي قد لاتتكرر مرة أخرى .. كن إيجابياً ،
وانظر إلى الفرص بعين المتسابق التي يتمنى أن تلوح له . سائله الله تعالى
لكم الهداية والتوفيق والسداد . والفوز بالجنه والعتق من النار